• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حينما تصبح النفايات مرآة لثقافة المجتمع وتمدنه

د. نضير الخزرجي

حينما تصبح النفايات مرآة لثقافة المجتمع وتمدنه

من عادتي عند السفر والترحال على قلّته وتنقلي في المطارات وعموم المنافذ الحدودية أن أتجول في الأروقة وألقي النظرات هنا وهناك، وأتطلع في جمالية المنفذ الحدودي وكيفية تعاطي الموظفين والعاملين مع المسافرين ونوعية الخدمات المتوفرة وبخاصّة ما يتعلق بالنظافة، لاعتقادي أنّ نظافة المنافذ الحدودية هي مرآة للبلد وسلامة شوارعه وأزقته ورقي شعبه ومجتمعه، لأنّ النظيف في المرافق الحكومية ذات الاتصال بالناس هو نظيف في مسكنه ومحل عمله وفي الشارع والزقاق، باعتبار أنّ النظافة طبيعة وسلوك وليست تطبّعاً وتصنّعاً.

والحكومات الصالحة تحرص كلّ الحرص على نظافة البلد وتشجيع المجتمع بطُرق مختلفة للحفاظ على نظافة المرافق العامّة والخاصّة وتخليصها من النفايات المختلفة الخارجة من المنازل والمستشفيات والمصانع والمعامل والمفاعل، وبعضها تفرض الضرائب للحدّ من التلوث المناخي وبعضها تحظر أنواعاً من السيارات من الدخول إلى مركز المدن المكتظة في ساعات معيّنة لحماية البيئة ممّا تنفثه عوادم السيارات، أو تفرض عليها ضريبة لدفعها إلى تفادي المرور من المناطق السكانية والمزدحمة.

وكما أنّ المنافذ الحدودية علامة مميزة على نوعية السلطة الحاكمة واهتمامها بالمرافق العامّة، فإنّ شوارع البلد وأزقته علامة مميزة على طبيعة المجتمع وتعامله مع مرافق البلد الخاصّة والعامّة، باعتبار النظافة ثقافة، ولهذا فإنّ المسافر الذي يتنقل في البلدان له أن يحكم على ثقافة هذا الشعب أو ذاك من خلال ما يراه وما يلمسه في الشوارع والأرصفة.

كما أنّ النظافة لوحدها لا تكفي، حيث يصاحبها فن طريقة التخلص من النفايات أو إعادة تدويرها وتكريرها والاستفادة منها، فالحكومة التي هي نتاج المجتمع والمولودة من رحمه تقع عليها عبء التخلص من النفايات بطريقة ذكية للتقليل من الخسائر في الإنسان والحيوان والنبات والبيئة والتربة والمياه، والعملية تشاركية تضامنية بين الحكومة كشخصية اعتبارية والمجتمع كشخصية حقيقية، لأنّ الأُولى عبارة عن دوائر ومؤسسات يديرها أبناء المجتمع نفسه، ولهذا إذا أحسن المجتمع التعامل مع نفايات المنزل أو المصنع أو المعمل وما شابه ذلك، أمكن نفسه والحكومة من تحصين البيئة من الغازات السامة التي تفرزها النفايات وما ينشأ عنها من أوبئة، من هنا فإنّ بعض الحكومات تساهم مع المجتمع في حماية البيئة عبر تخصيص مجموعة من الحاويات في المنزل الواحد، فعلى سبيل المثال فإنّ المنطقة التي أقطنها في شمال غرب لندن وفّرت لكلّ منزل أربع حاويات ثلاث أمام الباب ورابعة خلفه، فواحدة لمخلفات الحدائق وثانية لمخلفات المنزل، وثالثة لمخلفات الورق والزجاج والبلاستيك، ورابعة لمخلفات المطبخ من زوائد النباتات والثمار واللحوم والأسماك، وكلّ هذه الحاويات تعمل الجهات المعيّنة على تدويرها وصناعة السماد وطعام الحيوانات وإعادة إنتاج الورق والبلاستك والزجاج، وفي بعض الدول يتم بيع النفايات إلى بلدان أُخرى، كما وضعت الحكومة في كلّ بلدة مجموعة مكبات عامّة للنفايات تستقبل مخلفات البناء والأجهزة الكهربائية وأثاث المنازل والحدائق، أي أنّ المواطن لا يجد صعوبة في التخلص من النفايات الخفيفة والثقيلة، وبالطبع ليست النظافة في مثل هذه  البلدان مجاناً وإنّما كلّ منزل يدفع ضريبة شهرية على النظافة والتخلص من النفايات، وبهذا فإنّ المشاركة بين المواطن والبلدية ساهمت بشكل كبير وتساهم في تنقية البيئة من مخلفات النفايات.

وحيث تصطف في واجهة كلّ بيت ثلاث حاوية ورابعة داخل المطبخ، لا يتورع البعض من ضعاف النفوس في بعض البلدان من الاستيلاء على الحاويات الموضوعة في الأزقة والشوارع العامّة واستعمالها لأغراض خاصّة، وقد رأيت بالقرب من أحد المراقد المقدسة حاويات الزبالة وقد أقفل عليها بسلسة حديدية خشية السرقة، ومن المؤسف أن تجد في بلد يدعو دينه القويم إلى النظافة ويجعلها علامة وماركة الإيمان، أن يرمي بعض أهلها النفايات في الشارع أو في البالوعات أو في الأنهر، أو أن يقدم الرُّعاة الباحثون عن طعام مجاني لأغنامهم، أو الباحثون عن قطع البلاستيك وقناني المشروعات الغازية الفلزية إلى تفريغ الحاويات ورميها في الشارع وهي تنشر سمومها فتكون مذوداً للحيوانات السائبة وبيئة خصبة للأمراض المعدية.

صورتان متقابلتان تعكسان ثقافة المجتمع وتعاطيه مع النفايات.. يتابع مسائلها الشرعية الفقيه آية الله الشيخ محمّد صادق الكرباسي في كُتيب «شريعة النفايات» الصادر حديثاً (2019م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 40 صفحة استوعبت (75) مسألة بضميمة (20) تعليقة لآية الله الشيخ حسن رضا الغديري، مع مقدّمة للناشر وأُخرى للمعلق إلى جانب ما مهّد له الفقيه الكرباسي من رؤية حول النفايات والتخلص منها بطريقة سليمة ومفيدة.

الصحّة والسلامة أوّلاً

النفايات كما نقرأ ما كتبه الفقيه الكرباسي في التمهيد هي: «جمع النفاية، وهي الأُمور التي يبعدها الإنسان عن حياته لضررها، يقال نفاءُ الشي ونفايته هو ما نفيتَ منه لرداءته.. والنفاية في المصطلح الخاصّ هو كلّ شيء لا قيمة له ولا يصلح بقاؤه بقرب الإنسان حيث فقد أهليته للاستخدام والتداول بل وحتى اقتناؤه»، فخلاصة الأمر أنّ بقاء النفايات في الدار أو في الشارع أو في العراء مهلكة للبيئة والجماد والنبات والحيوان فضلاً عن الإنسان الذي هو الفاعل الرئيسي لحصول النفاية وتراكمها وهو صاحب العقل الذي استفاد من البيئة في صناعة ما ينفعه في حياته، ومن الطبيعي أن تترك الصناعات نفايات ومخلفات غير ذات قيمة أو مضرة، وكما استعمل عقله في الصنع والخلق عليه أن يستعمل عقله في التخلص من المخلفات أو تدويرها لحماية البيئة وتلافي أضرار الإسراف والتبذير.

وليس الحفاظ على البيئة أمر سلطوي أو حكومي، إنّما هو أمر مولوي كينوني تدركه الفطرة الإنسانية السليمة، بل إنّ الإبقاء على النفايات دون التخلص منها وتعريض النفس والمجتمع للخطر إنّما في اعتقادي يدخل في مصاديق قوله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة/ 195)، وليس من العقل أن يلقي المرء بنفسه إلى جحيم التلوث والأمراض المعدية والسارية، من هنا كما يفيدنا الفقيه الكرباسي: «الحفاظ على البيئة واجب شرعي على كل مَن يعيش أو يمر ببلد، ولا اختصاص له بالمواطن بل وبالمقيمين والمسافرين في أي بقعة كانت»، وإذا كان الوجوب متحقّقاً في كلّ ذي نفس عاقلة مدركة لأهميّة صيانة النفس والمجتمع والبيئة من النفايات فإنّه: «لا يجوز وضع النفايات في موضع يوجب الضرر للمارة أو في أماكن عامّة بحيث يتضرر منها الناس، كما لا يجوز رميها في ملك الآخرين».

وحيث يشمل الوجوب الراشدين فإنّ من الوجوب: «المحافظة على الأطفال والقاصرين والجهلاء عبر منعهم من مباشرة النفايات المنزلية الضارة وكذلك النفايات المشعة والضارة»، ولا يقتصر الوجوب على أولياء الأُمور، صحيح: «إنّ أولياء الأطفال والقصَّر هم المكلفون بالدرجة الأُولى ولكن لا يسقط التكليف عن الآخرين إذا علموا بذلك، فالواجب على الجميع منعهم من مباشرة هذه النفايات وجوبا كفائياً»، وهنا تقع مسؤولية كبرى على السلطة الإدارية في إنجاز مثل هذا الأمر بالتخلص من النفايات وإبعادها عن متناول الأطفال الذين لا يدركون مخاطرها، وبتعبير الفقيه الغديري وهو يعلق على المسألة: «وبالتالي تتوجه المسؤولية إلى الهيئة الحاكمة في ضمان الحفاظ على الأطفال والقصَّر».

وإذا كان الإسلام يوجه المجتمع عبر خطاباته التعليمية والتربوية للحفاظ على البيئة بالتخلص من النفايات بصورة سليمة من داخل المنزل وخارجه، فإنّ بعض الحكومات لجأت إلى فرض الغرامة المالية الشديدة على الراشد إذا رمى الزبالة في الطرقات حتى ولو كانت الزبالة عبارة عن كيس فارغ لبطاطة مقلية «جيبس» أو عقب سيجارة أو بقايا ورق صحّي، وتقع الغرامة على القاصر والطفل عبر ولي أمره إذا تساهل في أمر النظافة ولم يردع مَن يتولى أمره، لأنّ المواطن في مثل هذا البلد الذي يدفع الضريبة على النظافة وشم الهواء النقي من حقّه أن يرى البيئة نظيفة ومن واجب الجهات المسؤولة التي تنتفع من هذه الضرائب حماية البيئة وخدمة المواطن، ومَن لا يعتبر نفسه جزءاً من عملية النظافة التضامنية والتشاركية يسيء الأدب إلى أبعد الحدود ويرمي الكرة في مرمى البلدية فحسب ضارباً بقوانين البلدية عرض الحائط فضلاً عن التعاليم الدينية والأخلاقية!، وهنا يضيف الفقيه الكرباسي قائلاً: «رمي النفايات في الطرق والشوارع والأزقة بشكل عشوائي لا يجوز وتدنيس الأماكن العامّة بذلك مخالف للشرع الذي يأمر بالنظافة»، بل يكون الإنسان ضامناً إذا وقع الضرر على الآخر، حيث إنّ: «الأشياء الجارحة كالزجاج وما إلى ذلك لا يجوز وضعها بشكل يوجب الإضرار بالناس، وإذا تعمد أحد وتضرر الناس منها كانت عليه الضمانة»، وكذلك: «إذا وضع صاحب المنزل في  النفايات ما يوجب الانفجار أو  التسمم وأصيب الزبّال أو عمال الشركة الناقلة للنفايات فإنّه ضامن لحياته وإعاقته وجرح».

ماركة حضارية

ومن العلامات الفارقة على احترام المواطن للبلد وبيئته واحترامه لنفسه وللقانون هو اتّباع تعاليم السلطات المحلية التي تنظر إلى المصلحة العامّة وسلامة البيئة، ولهذا: «إذا وضعت السلطات الصحّية بعض القوانين للمحافظة على سلامة الناس من النفايات فلابدّ من الالتزام بها»، فالمواطنة الصالحة تبدأ من الذات وتتمظهر في الخارج عبر اتّباع النُّظم والتعاليم والوصايا الموضوعة التي تصالح عليها المجتمع عبر مؤسساته المختلفة ذات الشأن، ولهذا إذا وضعت السلطة المحلية على سبيل المثال مجموعة حاويات وعلّمتها بعلامات تشير إلى نوع النفاية المطلوب وضعها فيه أو عبر حاويات ملونة يشير كلّ لون إلى نوع النفاية والزبالة، يفترض حينئذ إتباع التعاليم وحط الزبالة في موضعها، من هنا يضيف الفقيه الكرباسي: «إذا فرضت الدولة فصل النفايات وتعريبها لأجل المحافظة على البيئة وإعادة تأهيلها، وجب على المواطن العمل حسب تلك القوانين، ولا يجوز تجاوزها عمداً» وعليه: «إذا حدّدت البلدية بعض الحاويات لنفايات خاصّة وأُخرى لغيرها، لابدّ من الالتزام بها»، وفي حال لم تقرر البلدية ذلك فإنّ: «فرز النفايات واجب كفائي فيما يوجب الضرر، فإذا لم تقم البلدية بذلك فلا يسقط الوجوب عن الآخرين»، ويعلق الفقيه الغديري قائلاً: «وفي صورة وقوع الضرر على البيئة أو الأشخاص فالبلدية هي المسؤولة بالأصالة وإن كان الإثم يتوجه إلى الجميع».

وحيث تفرض بلديات غرامات مالية على مَن لا يتقيّد بالتعاليم، فإنّ بعضها الآخر تمتنع عن تفريغ حمولة النفايات ممّا يضطر المواطن إلى تولي أمر التخلص منها شخصياً بنقلها إلى مكبات خاصّة، وفي مثل هذه الحالة حيث لا يتقيّد المواطن بالتعاليم يضيف الفقيه الكرباسي: «يحق للبلدية أن لا تستلم النفايات التي لم يلتزم أصحاب المنازل بالقوانين التي وضعتها البلدية»، ولأهميّة الحفاظ على البيئة يعلق الفقيه الغديري: «لا يجوز للبلدية رفض استلام النفايات لأنّها قد توجب الإضرار على الآخرين صحّياً، فلها وضع الغرامات المالية لمن يخالف القوانين الموضوعة للنفايات ومعاقبته قانونياً وقضائياً، وذلك لأجل الحفاظ على البيئة، والبلدية مسؤولة عنها، والمخالف هو المعاقب للتخلف عن القانون»، وقد يتحقّق الاثنان معها كما في بعض البلديات حيث تفرض الغرامة إلى جانب الامتناع عن نقل الحمولة زيادة في إرغام المواطن على التقيّد بالتعاليم واحترام القوانين، ولهذا يعود الفقيه الكرباسي مضيفاً: «يجوز لحاكم الشرع وضع غرامة لمن يخالف قانون النفايات وعدم فرزها».

ومن التعاليم التربوية كما جاء في الآثر عن الإمام عليّ ر(ع): «ترك القمامة في البيت يُورث الفقر»، والعمل بهذا النص علامة فارقة على طبيعة التعامل مع المخلفات المنزلية الموجبة للأمراض، والمرض مدعاة لفقد الصحّة والإقعاد عن الحركة وبذل المال للاستشفاء وهو استنزاف للمال ومآل إلى الفقر بخاصّة أصحاب الدخل المتوسط والمحدود، ولما كان شعار «الوقاية خير من العلاج» قاعدة ذهبية، فإنّ النظافة المنزلية دلالة على حُسن الدار وأهلها، فيما تمثّل النظافة الخارجية واقع المجتمع ورقيه.

ويواصل الفقيه الكرباسي في «شريعة النفايات» تناول مسائل متعدّدة على علاقة بالبيئة وطهارتها ونظافتها، من قبيل الحديث عن احترام الميت بدفنه سريعاً وموارته التراب وهو المكان الطبيعي له: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طه/ 55)، أو الحديث عن بيع وشراء النفايات وبخاصّة القاذورات البشرية والحيوانية أو الحيوانات الميتة فهي: «قابلة للاستفادة منها في هذه الأيّام فإنّ بيعها أو العمل في الاستفادة منها جائز غير محرم، وما قيل سابقاً من حرمة بيعها أو التعامل بها لأنّهم لم يكونوا قادرين على الاستفادة منها»، والحديث عن الأشياء المشعة والمضرة ونفايات المستشفيات والمستوصفات التي: «لا يجوز رميها كسائر النفايات بل لابدّ من التخلص منها بالطُّرق الفُضلى»، ومثلها نفايات المفاعل الذرية والنووية التي تتطلب تقنية عالية للتخلص منها حماية للتربة والبيئة وما على وجه الأرض من دابة ونبات وجماد.

إنّ الرؤية الفقهية الناضجة التي نلمسها في «شريعة النفايات» وفي غيرها من سلسلة الشريعة التي بلغت ألف عنوان يدبج مسائلها وأحكامها الفقيه آية الله الشيخ محمّد صادق الكرباسي تعكس واقعية الإسلام الذي وضع القواعد والأصول لكلّ منحى من مناحي الحياة وواقعية الفقيه العامل الذي يتابع مستجدات الحياة فيعمد إلى استنباط الأحكام الفرعية من تلك الأصول وعدم ترك الأُمّة هملاً.

ارسال التعليق

Top